فصل: الْأَوَّلُ: التَّفْسِيرُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الْوَظِيفَةُ الثَّالِثَةُ: الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ:

وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَحَقِيقَتِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ تَأْوِيلَهَا وَالْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يُقِرَّ بِالْعَجْزِ، فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَاجِبٌ وَهُوَ عَنْ دَرْكِهِ عَاجِزٌ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: الْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ؛ يَعْنِي: تَفْصِيلُ الْمُرَادِ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِنْ جَاوَزُوا فِي الْمَعْرِفَةِ حُدُودَ الْعَوَامِّ وَجَالُوا فِي مَيْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَقَطَعُوا مِنْ بَوَادِيهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ مِمَّا لَمْ يَبْلُغُوهُ- وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ- أَكْثَرُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا طُوِيَ عَنْهُمْ إِلَى مَا كُشِفَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطْوِيِّ وَقِلَّةِ الْمَكْشُوفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَطْوِيِّ الْمَسْتُورِ.
قَالَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَكْشُوفِ قَالَ- صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ-: أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ أَخْوَفُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ضَرُورِيًّا فِي آخِرِ الأمر بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُنْتَهَى الْحَالِ، قَالَ سَيِّدُ الصِّدِّيقِينَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ فَأَوَائِلُ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ كَأَوَاخِرِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَوَاصِّ الْخَلْقِ فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ؟

.الْوَظِيفَةُ الرَّابِعَةُ: السُّكُوتُ عَنِ السُّؤَالِ:

وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَوَامِّ لِأَنَّهُ بِالسُّؤَالِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا لَا يُطِيقُهُ وَخَائِضٌ فِيمَا لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، فَإِنْ سَأَلَ جَاهِلًا زَادَهُ جَوَابُهُ جَهْلًا، وَرُبَّمَا وَرَّطَهُ فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَإِنْ سَأَلَ عَارِفًا عَجَزَ الْعَارِفُ عَنْ تَفْهِيمِهِ، بَلْ عَجَزَ عَنْ تَفْهِيمِ وَلَدِهِ مَصْلَحَتَهُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْمَكْتَبِ، بَلْ عَجَزَ الصَّائِغُ عَنْ تَفْهِيمِ النَّجَّارِ صِنَاعَتَهُ، فَإِنَّ النَّجَّارَ- وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِصِنَاعَتِهِ- فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَقَائِقِ الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْلَمُ دَقَائِقَ النَّجْرِ لِاسْتِغْرَاقِهِ الْعُمْرَ فِي تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَفْهَمُ الصَّائِغُ أيضا لِصَرْفِ الْعُمْرِ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يَفْهَمُهُ، فَالْمَشْغُولُونَ بِالدُّنْيَا وَبِالْعُلُومِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ مَعْرِفَةِ اللهِ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَجْزَ كَافَّةِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الصِّنَاعَاتِ عَنْ فَهْمِهَا، بَلْ عَجْزُ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ عَنْ الِاغْتِذَاءِ بِالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لِقُصُورٍ فِي فِطْرَتِهِ لَا لِعَدَمِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَلَا لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى تَغْذِيَةِ الْأَقْوِيَاءِ، لَكِنَّ طَبْعَ الضُّعَفَاءِ قَاصِرٌ عَنِ التَّغَذِّي بِهِ، فَمَنْ أَطْعَمَ الصَّبِيَّ الضَّعِيفَ اللَّحْمَ وَالْخُبْزَ أَوْ مَكَّنَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ فَقَدْ أَهْلَكَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَامَّةُ إِذَا طَلَبُوا بِالسُّؤَالِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَمَنْعُهُمْ وَضَرْبُهُمْ بِالدِّرَّةِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِكُلِّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَكَمَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمٍ رَآهُمْ خَاضُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَسَأَلُوا عَنْهُ: فَقَالَ عليه السلام: أَفَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ وَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ كَمَا اشْتُهِرَ فِي الْخَبَرِ. وَلِهَذَا أَقُولُ: يَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ الْجَوَابُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْخَوْضِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ السَّلَفُ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْدِيسِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ تعالى عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا، وَلَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي هَذَا بِمَا أَرَادَ حَتَّى يَقُولَ: كُلُّ مَا خَطَرَ بِبَالِكُمْ وَهَجَسَ فِي ضَمِيرِكُمْ وَتُصُوِّرَ فِي خَاطِرِكُمْ، فَاللهُ تعالى خَالِقُهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا وَعَنْ مُشَابَهَتِهَا، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِخْبَارِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمُرَادِ فَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَاشْتَغِلُوا بِالتَّقْوَى، فَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ تعالى بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَهَذَا قَدْ نُهِيتُمْ عَنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَمَهْمَا سَمِعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاسْكُتُوا، وَقُولُوا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوتِينَا.

.الْوَظِيفَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَلْفَاظٍ وَارِدَةٍ:

وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْخَلْقِ الْجُمُودُ عَلَى أَلْفَاظِ هَذِهِ الأخبار وَالْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَالتَّصْرِيفُ وَالتَّفْرِيعُ... إِلَخْ:

.الْأَوَّلُ: التَّفْسِيرُ:

وَأَعْنِي بِهِ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ بِلُغَةٍ أُخْرَى يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوِ التُّرْكِيَّةِ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا، وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفَرَسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَمِثَالُهُ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ لَفْظٌ مُطَابِقٌ يُؤَدِّي بَيْنَ الْفُرْسِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُؤَدِّيهِ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَزِيدِ إِبْهَامٍ إِذْ فَارِسِيَّتُهُ أَنْ يُقَالَ: راست بايستاد، وَهَذَانَ لَفْظَانِ:
(الْأَوَّلُ) يُنْبِئُ عَنِ انْتِصَابٍ وَاسْتِقَامَةٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْحَنِيَ وَيَعْوَجَّ.
(وَالثَّانِي) يُنْبِئُ عَنْ سُكُونٍ وَثَبَاتٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَضْطَرِبَ، وَإِشْعَارُهُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِشَارَتُهُ إِلَيْهَا فِي الْعَجَمِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ إِشْعَارِ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهَا، فَإِذَا تَفَاوَتَ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِشْعَارِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ الْمُرَادِفِ لَهُ الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِمَا لَا يُبَايِنُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَأَدَقِّهِ وَأَخْفَاهُ (مِثَالُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِصْبَعَ يُسْتَعَارُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلنِّعْمَةِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي إِصْبَعٌ: أَيْ نِعْمَةٌ، وَمَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ انكشت، وَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَجَمِ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَوَسُّعُ الْعَرَبِ فِي التَّجَوُّزِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَوَسُّعِ الْعَجَمِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ إِلَى جُمُودِ الْعَجَمِ، فَإِذَا حَسُنَ إِيرَادُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْعَرَبِ وَسَمِجَ ذَلِكَ فِي الْعَجَمِ نَفَرَ الْقَلْبُ عَمَّا سَمَجَ وَمَجَّهُ السَّمْعُ وَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَفَاوَتَا لَمْ يَكُنِ التَّفْسِيرُ تَبْدِيلًا بِالْمِثْلِ بَلْ بِالْخِلَافِ، وَلَا يَجُوزُ التَّبْدِيلُ إِلَّا بِالْمِثْلِ (مِثَالُ الثَّالِثِ) الْعَيْنُ، فَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ فَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ بِأَظْهَرِ مَعَانِيهِ فَيَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ- وَهُوَ مُشْتَرَكٌ- فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَيْنَ الْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَبَيْنَ الْمَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلَفْظِ جِسْمٌ- وَهُوَ مُشْتَرَكٌ- هَذَا الِاشْتِرَاكُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَنْبِ وَالْوَجْهِ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا نَرَى الْمَنْعَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّفَاوُتُ إِنِ ادَّعَيْتُمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ خُبْزٌ وَنَانٌ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ لَحْمٌ وكوشت، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَامْنَعْ مِنَ التَّبْدِيلِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ لَا عِنْدَ التَّمَاثُلِ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ، فَلَعَلَّ لَفْظَ الْيَدِ وَلَفْظَ دست يَتَسَاوَيَانِ فِي اللُّغَتَيْنِ وَفِي الِاشْتِرَاكِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَسَمَ إِلَى مَا يَجُوزُ وَإِلَى مَا لَا يَجُوزُ- وَلَيْسَ إِدْرَاكُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا وَالْوُقُوفُ عَلَى دَقَائِقِ التَّفَاوُتِ جَلِيًّا سَهْلًا يَسِيرًا عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِ الْإِشْكَالُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مَحَلُّ التَّفَاوُتِ عَنْ مَحَلِّ التَّعَادُلِ- فَنَحْنُ بَيْنَ أَنْ نَحْسِمَ الْبَابَ احْتِيَاطًا إِذْ لَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ أَنْ نَفْتَحَ الْبَابَ وَنُقْحِمَ عُمُومَ الْخَلْقَ وَرْطَةَ الْخَطَرِ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الأمريْنِ أَحْزَمُ وَأَحْوَطُ، وَالْمَنْظُورُ فِيهِ ذَاتُ الْإِلَهِ وَصِفَاتُهُ؟ وَمَا عِنْدِي أَنَّ عَاقِلًا مُتَدَيِّنًا لَا يُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا الأمر مُخْطِرٌ، فَإِنَّ الْخَطَرَ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْعِدَّةَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلِلْحَذَرِ مِنْ خَلْطِ الْأَنْسَابِ احْتِيَاطًا لِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّسَبِ، فَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْعَقِيمِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ؛ لِأَنَّ بَاطِنَ الْأَرْحَامِ إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ النَّظَرِ إِلَى التَّفْصِيلِ كُنَّا رَاكِبِينَ مَتْنَ الْخَطَرِ، فَإِيجَابُ الْعِدَّةِ حَيْثُ لَا عُلُوقَ أَهْوَنُ مِنْ رُكُوبِ هَذَا الْخَطَرِ، فَكَمَا أَنَّ إِيجَابَ الْعِدَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَحْرِيمُ تَبْدِيلِ الْعَرَبِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَتَرْجِيحِ طَرِيقِ الأولى، وَيُعْلَمُ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ وَعَمَّا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِدَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا احْتَاطَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

.أَمَّا التَّصَرُّفُ الثَّانِي: بِالتَّأْوِيلِ:

وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَاهُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَامِّيِّ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ الْعَامِّيِّ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ:
(الْأَوْلُ) تَأْوِيلُ الْعَامِّيِّ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ يُشْبِهُ خَوْضَ الْبَحْرِ الْمُغْرِقِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ السِّبَاحَةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَبَحْرُ مَعْرِفَةِ اللهِ أَبْعَدُ غَوْرًا وَأَكْثَرُ مَعَاطِبَ وَمَهَالِكَ مِنْ بَحْرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْبَحْرِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ، وَهَلَاكُ بَحْرِ الدُّنْيَا لَا يُزِيلُ إِلَّا الْحَيَاةَ الْفَانِيَةَ وَذَلِكَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ فَشَتَّانَ بَيْنَ الْخَطَرَيْنِ.
(الْمَوْضِعُ الثَّانِي) أن يكون ذَلِكَ مِنَ الْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ وَهُوَ أيضا مَمْنُوعٌ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَجُرَّ السَّبَّاحُ الْغَوَّاصُ فِي الْبَحْرِ مَعَ نَفْسِهِ آخَرَ عَاجِزًا عَنِ السِّبَاحَةِ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ. وَذَلِكَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى حِفْظِهِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ السَّاحِلِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْوُقُوفِ بِقُرْبِ السَّاحِلِ لَا يُطِيعُهُ، وَإِنْ أَمْرَهُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ الْتِطَامِ الْأَمْوَاجِ وَإِقْبَالِ التَّمَاسِيحِ وَقَدْ فَغَرَتْ فَاهًا لِلِانْتِقَامِ، اضْطَرَبَ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ وَلَمْ يَسْكُنْ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ لِقُصُورِ طَاقَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الْحَقُّ لِلْعَالِمِ إِذَا فَتَحَ لِلْعَامِّيِّ بَابَ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خِلَافِ الظَّوَاهِرِ. وَفِي مَعْنَى الْعَوَامِّ الْأَدِيبُ وَالنَّحْوِيُّ وَالْمُحَدِّثُ وَالْمُفَسِّرُ وَالْفَقِيهُ وَالْمُتَكَلِّمُ، بَلْ كُلُّ عَالِمٍ سِوَى الْمُتَجَرِّدِينَ لِتَعَلُّمِ السِّبَاحَةِ فِي بِحَارِ الْمَعْرِفَةِ، الْقَاصِرِينَ أَعْمَارَهُمْ عَلَيْهِ، الصَّارِفِينَ وُجُوهَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْخَلْقِ وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ، وَالْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ تعالى فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ بِجَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْرِغِينَ قُلُوبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ عَنْ غَيْرِ اللهِ تعالى لِلَّهِ، الْمُسْتَحْقِرِينَ لِلدُّنْيَا بَلِ الْآخِرَةِ وَالْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنْبِ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَوْصِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، يَهْلَكُ مِنَ الْعَشْرَةِ تِسْعَةٌ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ وَاحِدٌ بِالدُّرِّ الْمَكْنُونِ وَالسِّرِّ الْمَخْزُونِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى فَهُمُ الْفَائِزُونَ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ) تَأْوِيلُ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ فِي سِرِّ قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجَهٍ، فَإِنَّ الَّذِي انْقَدَحَ فِي سِرِّهِ أنه الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ مَثَلًا، إِمَّا أن يكون مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مَظْنُونًا ظَنًّا غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلْيَعْتَقِدْهُ وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فَلْيَجْتَنِبْهُ، وَلَا يَحْكُمَنْ عَلَى مُرَادِ اللهِ تعالى وَمُرَادِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَلَامِهِ بِاحْتِمَالٍ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الشَّاكِّ التَّوَقُّفُ.
وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَاعْلَمْ أَنَّ لِلظَّنِّ مُتَعَلَّقَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي انْقَدَحَ عِنْدَهُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللهِ تعالى أَوْ هُوَ مُحَالٌ؟.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَعْلَمَ قَطْعًا جَوَازَهُ لَكِنْ تَرَدَّدَ فِي أنه هَلْ هُوَ مُرَادٌ أَمْ لَا (مِثَالُ الْأَوَّلِ) تَأْوِيلُ لَفْظِ الْفَوْقِ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا السُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَإِنَّا لَا نَشُكُّ فِي ثُبُوتِ مَعْنَاهُ لِلَّهِ تعالى، لَكِنَّا رُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [16: 50] هَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ أَمْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ تعالى دُونَ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ صِفَةٌ فِي جِسْمٍ (وَمِثَالُ الثَّانِي) تَأْوِيلُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بأنه أَرَادَ بِهِ النِّسْبَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لِلْعَرْشِ، وَنِسْبَتُهُ أَنَّ اللهَ تعالى يَتَصَرَّفُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَيُدَبِّرُ الأمر مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ صُورَةً مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الْعَرْشِ، كَمَا لَا يُحْدِثُ النَّقَّاشُ وَالْكَاتِبُ صُورَةً وَكَلِمَةً عَلَى الْبَيَاضِ مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الدِّمَاغِ، بَلْ لَا يُحْدِثُ الْبَنَّاءُ صُورَةَ الْأَبْنِيَةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ صُورَتَهَا فِي الدِّمَاغِ؛ فَبِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ يُدَبِّرُ الْقَلْبُ أَمْرَ عَالَمِهِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ فَرُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ إِلَيْهِ تعالى هَلْ هُوَ جَائِزٌ إِمَّا لِوُجُوبِهِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مُحَالًا كَمَا أَجْرَى عَادَتَهُ فِي حَقِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ بِأَلَّا يُمْكِنُهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ، وَإِنْ كَانَ فِي قُدْرَةِ اللهِ تعالى تَمْكِينُهُ مِنْهُ دُونَ الدِّمَاغِ لَوْ سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ، وَحَقَّتْ بِهِ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ، فَصَارَ خِلَافُهُ مُمْتَنِعًا لَا الْقُصُورُ فِي ذَاتِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ مَا يُخَالِفُ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَالْعِلْمَ السَّابِقَ الْأَزَلِيَّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [33: 62] وَإِنَّمَا لَا تَتَبَدَّلُ لِوُجُوبِهَا وَإِنَّمَا وُجُوبُهَا لِصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَنَتِيجَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ وَنَقِيضُهَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا، وَيَمْتَنِعَ نُفُوذُ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَإِذَنْ إِثْبَاتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلَّهِ تعالى مَعَ الْعَرْشِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ إِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ وُجُودًا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّاظِرُ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ وُجُودُ هَذَا مِثَالُ الظَّنِّ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مِثَالُ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْمَعْنَى مُرَادًا بِاللَّفْظِ، مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا جَائِزًا وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّنَّيْنِ إِذَا انْقَدَحَ فِي النَّفْسِ وَحَاكَ فِي الصَّدْرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ دَفْعُهُ عَنِ النَّفْسِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَلَّا يَظُنَّ؛ فَإِنَّ لِلظَّنِّ أَسْبَابًا ضَرُورِيَّةً لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَكِنْ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَعَ نَفْسَهُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِإِمْكَانِ الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ مَعَ نَفْسِهِ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ حُكْمًا جَازِمًا.
(وَالثَّانِيَةُ): أنه إِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ كَذَا أَوِ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ كَذَا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [17: 36] لَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَظُنُّ أنه كَذَا فَيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ ضَمِيرِهِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى صِفَةِ اللهِ وَلَا عَلَى مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ، بَلْ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَبَأً عَنْ ضَمِيرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ هَذَا الظَّنِّ مَعَ كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَاطِعًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ؟ قُلْنَا: تَحَدُّثُهُ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: فَإِمَّا أن يكون مَعَ نَفْسِهِ أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ، أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلِاسْتِبْصَارِ بِذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَتَجَرُّدِهِ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللهِ تعالى أَوْ مَعَ الْعَامِّيِّ، فَإِنْ كَانَ قَاطِعًا فَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِهِ وَيُحَدِّثَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ أَوْ مَنْ هُوَ مُتَجَرِّدٌ لِطَلَبِ الْمَعْرِفَةِ مُسْتَعِدٌّ لَهُ خَالٍ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالتَّعَصُّبَاتِ لِلْمَذَاهِبِ وَطَلَبِ الْمُبَاهَاةِ بِالْمَعَارِفِ وَالتَّظَاهُرِ بِذِكْرِهَا مَعَ الْعَوَامِّ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْفَطِنَ الْمُتَعَطِّشَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ يَحِيكُ فِي صَدْرِهِ إِشْكَالُ الظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُلْقِيهِ فِي تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ لِشِدَّةِ شَرَهِهِ عَلَى الْفِرَارِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ، وَمَنْعُ الْعِلْمِ أَهْلَهُ ظُلْمٌ كَبَثِّهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ.
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَفِي مَعْنَى الْعَامِّيِّ كُلُّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِطْعَامِ الرَّضِيعِ الْأَطْعِمَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا، وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَتَحَدُّثُهُ مَعَ نَفْسِهِ اضْطِرَارٌ، فَإِنَّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ ظَنٍّ وَشَكٍّ وَقَطْعٍ لَا تَزَالُ النَّفْسُ تَتَحَدَّثُ بِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ مَعَ الْعَوَامِّ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَقْطُوعِ، أَمَّا تَحَدُّثُهُ مَعَ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ دَرَجَتِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ أَوْ مَعَ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: أَظُنُّ كَذَا، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ بِذِكْرِهِ مُتَصَرِّفٌ بِالظَّنِّ فِي صِفَةِ اللهِ تعالى أَوْ فِي مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِيهِ خَطَرٌ، وَإِبَاحَتُهُ تُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [17: 36] فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
(الْأَوَّلُ) الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ صَادِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُ إِلَّا عَنْ ظَنِّهِ وَهُوَ ظَانٌّ.
(وَالثَّانِي) أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ، إِذْ كَلُّ مَا قَالُوهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الرَّسُولِ عليه السلام، بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ بِالِاجْتِهَادِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ وَتَعَارَضَتْ.
(وَالثَّالِثُ) إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِ الأخبار الْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي نَقَلَهَا آحَادُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَتَوَاتَرْ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ الَّذِي نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا رِوَايَتَهُ وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْعَدْلِ إِلَّا الظَّنُّ.